لا تظني، أنَّ ما يدفعني إلى التصرُّف بيأس هو خوفي من أنْ أفقدكِ. إنه ليس الخوف، بل الرغبة في التمسُّك بك. إنَّ ذاتي الخائفة ماتت. تلك الذات كانت سلبية، مُهمِلة، وغائبة عن الوعي. والرجل الذي أنا عليه الآن يقِظ وفعّال، إنه يقفز، ويُقاتل، ويرفض أنْ يُرخي قبضته.
هناك فرق، ألا ترين؟ الذات القديمة كانت ستنحل وتذوي على السرير، أو ستسكر، أو تهيم على وجهها في الشوارع، أو تلجأ إلى صديق قديم. لم يعُد في استطاعتي أنْ أفعل هذه الأمور. هذه الأمور كلها كانت تُخفف عني، تمكّنني من العويل ألماً ومعاناة، وربما كنتُ أرغم فيهما حينئذٍ. لا أريد أنْ أُعذِّب نفسي، سوف أضع نفسي تحت تصرّفك دائماً، وجهاً لوجه، بسرعة، ومباشرة. لم أسمح بأي غلط، بأي حادث يتطور بسرعة إلى سوء فهم. لن أسمح لنبات ضار واحد ينمو في هذه الحديقة التي نُعدّ. إنَّ الحياة قصيرة قِصراً مُرعباً لنُحقق فيها معاً رغباتنا كلها. يجب أنْ نُمسك بالزمن ونلوي عنقه. يجب أنْ نعيش كلٌ منا داخل الآخر.
عندما اتّصلتُ بك لم أكن متأكّداً من أني سأجدك. في تلك الأثناء اتصلتُ بكِ مرّتين وقيل لي إنكِ في الخارج. كنتُ أتصبّب عرقاً. رحتُ أتمشى في طول شارعك وعرضه وحول منزلك، تفرّجتُ على المطاعم، ثم عدتُ ووقفتُ أمام بابك. ولو أني لم أتمكن من التحدث معك عبر الهاتف كنتُ سأرسل إليك برقية، ومن ثم أعود لأكتب لك رسالة تُسلَّم باليد. نظرتُ في دليل الهاتف بحثاً عن اسم غويلر[1][1]، مُعتقداً أني قد أجدك في منزلك – منزلهم. فلم أعثر على العنوان. ولو أني انتظرتكِ هذا المساء ولم أجدكِ لاقتفيتُ أثر رانك[2][2] وحاولت الحصول عليه منه، بالقوة إذا اقتضى الأمر. لم أتمكن من التفكير أين يمكن أنْ تكوني، وماذا تفعلين. لم أُصدّق أنكِ ما زلت غاضبة مني، لم أفكّر إلا في أنكِ تبتعدين عني، متألمة، وحائرة، ويائسة من حبي. ثم إنَّ نيويورك تلك تبدو كالهولة – بحجمها، بشقوقها التي لا تنتهي، وعبث العثور على تلك التي تبحثين عنها كالمسعور. إنَّ المرء يتحول إلى قشّة، إلى خصلة شعر تذروها الريح، تمزّقه كل ذكرى، يُصبح ملعوناً، ضائعاً ومُحطَّماً، تتقاذفه الرياح. تقولين أنكِ كنتِ تبكين. وأنا كنتُ أبكي، أجوب الشوارع والدموع تسيل على وجهي. آه، لماذا، لماذا ؟ لماذا علينا أنْ نعاني ؟ هل نحن هشّون، مُعرَّضون لكل سهم؟ هذا شيء جميل وفظيع. لكننا أشبه بتوأم نحاول أنْ ننفصل. دعينا نبقى ملتصقَين معاً، بكل ما في الكلمة من معتنى. ادخلي فيّ، يا أناييس، وابقي هناك، لا تخرجي مني أبداً، ولا بمقدار فكرةٍ واحدة .
لقد مررتُ وإياكِ بتجارب رهيبة، تجارب مرعبة. ألا نستطيع أنْ نُغرق هذا كله في حبّنا ؟ أنتِ تعلمين الآن أني لا أحمل أفكاراً زائفة عنكِ، وأني قبلتكِ كامرأة، امرأتي. فلا تعاقبيني بسبب بطئي. بل اشكري النجوم لأننا كافحنا ونجحنا. لقد أخبرتك ذات مرة في رسالة كم أنا متيقّن من أنَّ مصير الإنسان كامنٌ داخله – وليس هناك في النجوم. وشعوري بهذا يترسّخ أكثر فأكثر. ألستِ معي ؟ ألستِ معي ؟ يجب أنْ تكوني كذلك، لأنَّ هذا ما أستشفّه من رسالتكِ. كيف يمكن ألا تكون القفزة الجريئة التي قمتِ بها إلا استجابةً لإملاء داخليّ. كان يجب أنْ تقفزي من أجلي، لكي تُنيري لي الطريق. لقد أثبتِّ ما أخبرتكِ ذات يوم أنه قول رائع – هل تذكرين ؟ ” الجرأة لا تقتل ” لقد رأيتِها في الملاحظات التي دوّنتها على الطاولة في فيلا سورا. إنني أتذكَّر جيداً كل ما لاحظتِ. أستطيع أنْ أرى ضياءً في وجهكِ، وفي يديكِ المتلهّفتين، وفي إيماءاتك التي ترسمينها في الهواء وتشبه الطيور. أنتِ بالنسبة إليّ الضوء نفسه – أينما تمرين يومضُ ضياء مُبهِر .
هل ستسامحينني لأني كتبتُ هذا كله، بدل أنْ أعمل ؟ أليس هذا، أعني حياتنا، أشدّ أهمية من العمل ؟ عمل ! عمل ! لماذا أعمل ؟ لابد أنَّ السبب في الأصل أُبالغ في تقدير نفسي، في حب نفسي، حتى أني حوّلت العمل إلى ولع وحاولتُ أنْ أُبرّره بأنواعٍ شتى من الأكاذيب والأضاليل. كنتُ أُشيدُ نُصُباً للأحزان الماضية. هذا كله انتهى. لقد تحوّل وجهي نحو المستقبل، بفرح. سوف يكون العمل طبيعياً أكثر، ولن يكون غاية بحد ذاته. لقد كدتُ أتجرّد من الإنسانية. وأنتِ أنقذتني.

رسالة حب من هنري ميللر إلى أناييس نن
صوت أحمد قطليش
ترجمة أسامة منزلجي