محمد المعايطة عمّان – خاص بـ "منصة الاستقلال الثقافية":

"لم أواجِه بل هربت"، بهذا الوضوح وَصَفَ الشاعر السوري أحمد قطليش خروجَهُ من سوريا العام 2013 عقب بدء الأحداث، خرَجَ مُحمّلاً بتقلباتٍ عديدةٍ، وبأسئلةٍ تجاوَزَت حدود الصداع والمُهدِّئات. كشاعرٍ ومثقفٍ، وقبل ذلك كإنسانٍ سوريٍّ يعيش في الألفية الثالثة، لم يكن سهلاً عليه الحديث عن الدماء التي سالت طوال سنواتٍ في الشوارع المجاورة لمنزله. كما أن سؤالاً واحداً كان يطِنُّ كذُبابِ الظهيرة في رأسه "كيف يَحِقُّ لي الحديثُ عن البلاد، وأنا لستُ فيها..؟".

رغمَ أنه بدأ حياتَهُ قاصّاً، لكن الظروف الجديدة التي عاشها إبّانَ خروجِهِ من دمشق، جعلَتْهُ يقترب إلى الشِعر أكثر. فكما يقول قطليش الذي يعيش في بلجيكا حالياً: "ليس سهلاً أن تكون قاصّاً ينظر إلى ما يحدث في البلاد من الخارج.. ما جعلني أنظر إلى داخلي بشكلٍ أكبر، وهكذا نَزَحْتُ إلى الشِعر مُبتعِداً عن عالم السرد. الشِعر كان المساحة الأنسب للهروب".

يعتقد قطليش بأن شخصية الشاعر تحمل الكثير من الذاتية والتأمُّليَّة، ما يُفَسِّرُ انتشار النصوص التي تميل إلى هذا الجانب مؤخراً، مستشهداً بدراسةٍ ليوسف اليوسف، بأن الشعر العربي -حتى الجاهلي منه- لم يحتوِ على ملاحم شعرية، مثل بعض الحضارات القديمة كالإغريق. وأن الشاعر لطالما كان موجوداً داخل العمل أو الحدث الشعري.

ومن هنا، يعتقد بأن الذاتية والتأمُّليَّة دَفَعَت الشِعر العربي للخروج من عباءة المباشرة والثورية، التي قيَّدَت إبداع الشاعر. فيقول: "بعد موت فكرة البطل.. لم يتبقَّ سوى العودة إلى النفس مرةً أخرى، وكانت النتيجة ظهور تجاربَ شعريةٍ مغايرةٍ".

كتاب "نخّال الخُطى"

في كتابه الأخير "نخّال الخُطى"، الذي أصدره قطليش عام 2018 عن دار ممدوح عدوان، حاوَلَ رصْدَ التجاربَ الشعريَّة السورية التي ظهرت بعد العام 2011، من خلال نصوصٍ مختارةٍ لـ21 شاعراً وشاعرةً، يعيشون بعِدَّةِ دول خارج سوريا، وخاصةً في ألمانيا. حاولَتْ هذه التجارب خلق فضاءاتٍ جديدةٍ من السرد والأفكار الشعرية، التي كانت على اختلاف مقاصدها، كافيةً لإعادة صياغة رؤيتنا لكل ما حدث وما يزال يحدث في سوريا.

مشروع "تكلام"

العاصمة الأردنية عمّان، كانت محطة السفر الأولى لقطليش بعيداً عن دمشق، حينها كان يعمل في إحدى الإذاعات المحلية، وهناك جرَّبَ للمرة الأولى تسجيل أحد نصوصِهِ الشعرية الخاصة بصوته في استوديو الإذاعة، وعندما نشَرَهُ على موقع الـ"ساوند كلاود"، لاحظ أنَّهُ حظيَ باستماعاتٍ تجاوَزَتْ القراءات بكثير. ما قادَهُ إلى فكرةٍ أخرى، أن يبدأ بتسجيل نصوصٍ لشعراءَ وكُتّاب آخرين بصوته الخاص.

حظيَتْ التجربة بنجاحٍ كبيرٍ، وبدَأَتْ تسجيلاتُهُ تنال استماعاتٍ عديدةً، وكان المتابعون لصفحة قطليش، يبحثون عن أصحاب هذه النصوص لمتابعتهم. وتعدّى الأمر كونَهُ مجرد تجربةٍ إبداعيةٍ جديدةٍ، وأصبح مسؤوليةً كبيرةً تجاه الشِعر، وصَفَها قطليش بـ"المُخيفَة"، قادَتْهُ إلى التفكير بالمشروع بشكلٍ أكثرَ جديّة، وعمِلَ على إنشاء استوديو خاص في منزله، وبدأ تعلُّم برامج المكساج والمونتاج، والتدرُّبَ على تحسين أدائه الصوتي. يقول: "الأمر لا يتعلق بإعجاب المتابعين بمشروعي الصوتي، بل بِفَتح آفاقٍ جديدةٍ لمتابعة وقراءة هؤلاء الشعراء والكُتّاب".

"تكلام، منصةٌ إلكترونیةٌ تسعى لتعریف المُتَلَقّي العربي بتجاربَ عربیةٍ وعالمیةٍ في الشعر والسرد والمسرح، من خلال مقاطعَ صوتيةٍ مُسجلةٍ بصوت الشاعر السوري أحمد قطليش. وهي مشروعٌ يؤمن بضرورة ردم الهوَّة بین الكاتب والقارئ، وتسمح للأخير بالبحث عن المزید من أعمال الشعراء والكتّاب".

قبل وبعد تكلام

لم يكن المشروع مجرد محاولةٍ إبداعيةٍ عابرةٍ، يُقَدِّمُها صوتٌ مختلفٌ قادرٌ على حَمْلِ أيّ نصٍّ شعريٍّ أو أدبيّ، بل كان سلوكاً معرفياً كاملاً بالنسبة إلى أحمد قطليش، أتاح له إعادة ترتيب مكتبته من جديد، خاصةً بعد مغادرته عَمّان وإقامته في أوروبا بين ألمانيا وبلجيكا. فالجُهْدُ المُكرَّس للبحث، دَفَعَ به للمزيد من القراءة واصطياد نصوصٍ مهمةٍ وشعراءَ مختلفين. فيقول: "الكثير من الشعراء المفضلين بالنسبة لي تغيَّروا، وحلّت مكانهم أسماء جديدة.. منصة تكلام تُعيد بناءَ معرفتي الأدبية الشخصية".

لا يحاول قطليش التَّعَدّي على قداسة الشعر وخصوصيته، ولا يُعلن موتَ الكتاب عبر تحويلِهِ إلى عملٍ صوتيّ، لكنَّهُ يحاولُ المساهمة في ردم الفجوة بين الشاعر والمتلقي، وأن يكون جسراً بينهما. فمنذ انطلاقة تكلام، تم تسجيل ونشر أكثر من 400 مقطعٍ مُسجَّلٍ، وصل عدد الاستماعات لقرابة الـ6 مليون بمعدل 5 آلاف استماع يومياً، وهناك 30 ألف متابعٍ للمنصة من كل العالم.

الشِعر بين القداسة و"السوشيال ميديا"

"أعمالهم كانت أعلى من أدائهم"، هذا ما قاله قطليش عند رؤيته تجارب بعض الشعراء، الذين حاولوا الاستفادة من مواقع التواصل الاجتماعي والتكنولوجيا الحديثة لتقديم أنفسهم. فهو يرى بأن الشعر الحديث، يميل إلى الذاتية والتأملية، لذلك هو مقروءٌ أكثر، وإعادة إنتاجِهِ وتقديمه ليكون مسموعاً، تحتاج إلى الكثير من العمل والتجريب. "يجب أن تسير كلٌ من حركة الصوت والنص بانسجامٍ وترابط". ومن هنا، يعمل قطليش على بحثِهِ الجديد الذي يتناول الصوت كأداةٍ في الشعر العربي، عَبْرَ منحةٍ من الصندوق العربي للثقافة والفنون "آفاق"، وهو محاولةٌ لدراسة الصوت والأداء الشعري منذ البدايات، ومدى تأثير الصوت على الشعر العربي الحديث، ويتناول البحث كلاً من الشاعرين: العراقي سركون بولص، والفلسطيني محمود درويش، قبل أن ينتقِلَ للحديث عن تجاربَ شعريَّةٍ أخرى.

مصدر المقال: