المحطة.. برهة انتظار قبل البيوت والذكريات
الأمر لا يتعلق بتلك الجدران ولا بالياسمينة التي تترنح بين بين، ولا بنبتة الحبق التي قررت أن تهب نفسها للفضاء، ولا حتى شجرة المشمش، نعم شجرة المشمس، تحزم حقائبها معنا، وتفتك بعلامات التيه التي سلكناها، لكأنّ مقاعدنا تحتها، تمشي خلفنا في صف طويل ومتعرج!
القلب سلكُنا الكهربائي الموصول بالخطيئة
الأمر يتعلق بهذا القلب، وبتلك الطفلة وخطئية السكّر التي تجرها وراءها كحمارٍ يجر عربة حديدية. اليوم عندما أجلس معي لأتفقد ممتلكاتي، أجدني لا أملك شيئًا غير رائحة أمي في ثيابي القديمة والصور القليلة المعلقة على الجدران كموتى واقفين وقهقهاتي وأختي الأصغر داخل البيت تعبث بأشيائه، أختي التي خذلتها بالتناسي لأقتل وحش البكاء، وأركل الريح التي قررت أن تسكن يدي، يدي الفارغة من يدها، وتنادي باسمي، اسمي الأمنية التي تدلت من شفاه قلب أمي وهي تضع رائحة أمها قلب النداء “مبروكة”، وتصنع اسمي كما لو أنّه عجينة ستعد منه رغيفًا كبيرًا يكفي جوعى العالم.
أسأل الآن من أين لي حقائب تتسع رائحة أمي وأمنياتها وقهقمة أختي وشجرة المشمش والياسمينة الذابلة والحبق العالق في عنق النهار وأحلامي وصوتي المهروس تحت عجلات انتظار مالا ينتظر، من أين لي حقائب تحملني وخيباتي الكثيرات دون أن تنزلق في شارع ما، أو في مدينة ما، أو في محطة ما، ولا تثير بكاء المتفرجين وتصفيقهم لطفلة نسيت نفسها على الرصيف المقابل لبيتها الذي لم يعد بيتها؟
بيت الذكريات إذ يصبح خسارة أكيدة
كان يجب على السمسار الساذج أن يغير سؤاله عن حجم البيت وعدد الغرف، ويسألني عن ضحكة أمي ويدها التي شاخت وهي تغزل الصوف لتجعل السقف ممكنًا. كان عليه أن يشتم بؤسها الكبير وقلبها الحنون، كان عليه أن يسألني عن عدد دموعها اللاتي سقينَ الحياة لتجعل الأخضر ممكنًا، هو لا يعلم أن الدمع دم شفاف قرر أن يخاذع القاتل ويغير ترتيب الأشياء. كان يجب أن يسألني كم مرة ضحكت، وكم مرة علقت مشانق بكاءها دون جنازة تذكر، كان يجب أن يسألني عن الأغنيات اللاتي نسجتها ووهبتها للآخرين بلا مقابل، كان ذلك وحده يمكن أن يجعل البيت ذي قيمة أكبر لساكن جديد لاتهمه الذكريات. في الحقيقة لا أحد سيفكر في الصخر والموج يصفعه مرارًا و تكررًا، الكل يفكر في المشهد العظيم والأزرق وهو يعوم بكامل جسده دون أن يغرق، لا أحد سيسأل عن قلب الصخر العالق في وجع البلل والعطش معًا.
الذاكرة تعطّل المسافات
الذاكرة لا تسمح للمسافات بفعل شيء بينهما حرب، ومهما حاولت المسافات ستلفك أغصان ذاكرتك لتعود بك مرمى دمعة لا أكثر، هكذا تسقط الصور على قلبك ككتاب منسي قرر فجأة وبوقاحة أن يجد له قارئًا غيرك فسقط على أول المحطة، من جهة الشمال، حيث السكة تتجه بك نحو الجنوب. تنظر إليك وإلى أشيائك بتفاصيلها الصغيرة قبل الكبيرة يصيبك دوار الشقهة، ستركض محاولًا إيجاد الباب داخل المتاهة: الباب وراءه باب، وراءه باب، وراءه باب، هكذا ينزلق صوتك منك في شبه صرخة، هنا ستعود للأغنية الأولى للضوء الأول ليبدو كل شيء في مكانه الصحيح، تمامًا يخيل إليك أنَّ كلَّ شيء في مكانهِ الصحيح.
أختي تضحك، تتعثر بضحكتها، تبكي، تسقط سقطتها النهائية، وأبي يبحث في الراديو عن موجة لإذاعة ما، على الأغلب فرنسية بحكم عمله ومغامراته وذكرياته، أمي تصنع الشاي الأخضر، وأنا المنذورة لحب وحيد، لرجل بأعمار كثيرة، أمسك يد أختي أحملها، أسقطَت سقطتها؟ هي تقرر أن تصفع الريح بضحكتها الشقيّة، بينما نحنُ أسرىَ البيت وذكرياتهِ من شجرةِ المشمس إلى ياء النهاية، نصنعُ تغريبة العائلة!