نص آلاء حسانين
و من يراك الآن، يا وجه العالم المتغصن.
رأيناك
وأنت تهبط الدرج المكسر
لتدفن-خلسة- النسل الحزين..
رأيناك
وأنت تبكي دمًا
على بناتك
اللاتي يذرفن تاريخًا ثقيلاً
من الملح.
بناتك اللاتي
يتمدد الألم في أحشائهن
مثل الأزقة التي لا تنتهي..
بناتك اللاتي
يهبطن مثلك -خلسة- الدرج الحجري
ويدفن خرق قلوبهن المدماة.
رأيناك حتى في التذكر
وأنت تُقلّب الصور الحزينة
لبنات باسمات في المهد
بنات باكيات في المهد
بنات يتطلعن في وجه العالم
يتطلعن في وجهك..
ومثل العالم كنت، كنت أنت، كنت بيديك هاتين، وبيدي العالم..
تخبئ في قلوبهن الحزن، تخبئ، عامدًا أو غير عامد، في لمعة عيونهن كل الانطفاء الممكن..
رأيناك وأنت تشهد انكسار الغصن، رأيناك وأنت تكسره، ورأيناك، وأنت تجر ندمًا ثقيًلا وتقول: ليته لم يكن.
ليتني لم أُنبت اغصانًا، سيجيء يوم، لأكسرها.. بيدي هاتين.
ليته كان وأد، يا بناتي..
ليتني، منذ خمسين حزن مضى..
قتلت نفسي نائما
و تركت نسلي اليابس يذبل في أحلام المخيلة.
ليتني لم أكن، و ليتكن ما كنتن، من يوقف الآن هذا النزف؟
هذا الدم الأحمر الذي يكتسح العالم
ينتقم من حزنه المكدس، حزنه المقدس، بولادات كثيرة..
رأيناك
وأنت تنشج بصوت مجروح
مثل أبواق الكنائس المهجورة
وأنت تنادي في ليل حزين
غربان القيامة
لتقتل نفسها
و تدفن العالم..
رأيناك
أيها الملك المنفيّ
و أنت تجوب الشوارع الغريبة وحدك
و أنت تطوف، لا كملك سابق، لا كنهار سابق، بل كليل، كان طول حياته ليلًا، و راح يجوب الأزقة معتمًا، و يطفئ العالم..
رأيناك وأنت تبكي
من الكبر، لا من الوهن..
تبكي مثل حجارة الشوارع العتيقة
حين تتكسر على نفسها.. من العمر الطويل.
رأيناك تبكي واقفًا
مثل أعمدة المعابد
حين تتذكر عمرًا قديمًا
وقت كان الناس
– المبعثرين الآن
مثل قطيع خراف يتوه في أزقة المدينة-
لا يتمنون شيئا، أكثر من طلب المغفرة.
رأيناك
وأنت تنظر يائسًا
و البشر يتكاثرون و يتساقطون مثل مطر حزين..
وتتذكر،
أول نبت شج وجه العالم المتحجر
وانبثق نحو الشمس..
رأيناك تتمنى خلسة
لو كنت طمرت هذا الحلم
لو كنت قتلت أولى الولادات
ووقفت مثل نبي، ينقذ شعبه، الذي لم يأت، من أن يأتي..
ووأدت أول أم، أول بنت، أول شيء حي قد قرر اكتساح العالم..
أيها الماشي وحيدًا
على امتداد الزرقة البحرية
ووجهك الأسمر يلمع تحت الشمس
وكل أعضائك تبكي
من الكبر لا من الوهن..
من العمر الطويل
الذي ظل يتراكم فوق عظامك
مثل الكلس على جدران المعابد..
تبكي، من نسلك المُتألّم، تبكي لأجل نسلك الذي يتألم..
نسلك الذي يكتسح العالم
مثل سرب جراد يخفق فوق النافذة..
تبكي
أيها الماشي وحيدًا
من العالم الذي يكدس حزنه في قلوب بنيك، و كل أبناء البشر، أيها الماشي لوحده، بنوك.
و أنت تبكي، و أنت تمشي، على امتداد هذا الموج الحزين، ويؤلمك امتلاء العالم.
في الشمس، في الشمس التي يشع ضوءها، على وجهك، ويخفت..
في الشمس التي تذهب وتجيء..
مثل شخص يتجول في الرواق..
في هذي الشمس نفسها، شمس طفولتك..
كنت تخبئ أحلامك
وعواءك الذي ترسله إليها خافتًا..
عواءك الأكثر عتمة، الأشد ظلمة، عواءك الذي يجيء من عمق قلبك، حين تطلقه – إذا أطلقته- كأن شخصًا يضرب بفأسه على جدران قلبك..
و أنت تخبئ عواءك في الشمس، بأشد خفوت ممكن..
خاشيًا على البشر الحالمين، لا على نفسك، أن يعرفوا أن حزنًا مماثلاً يركض بين جدران العالم.. يسكن بين جدران قلبك..
خاشيًا على البشر
– إذا سمعوا عواءك-
أن يتحطموا في أماكنهم
مثل تماثيل مصروعة.
و كنت تلجأ للكهف البارد في قلبك
كنت تشع سمارًا و حبات عرق و حياة دافئة
لكن قلبك كان صقيعًا و كنت تلجأ إليه..
كنت تنكفئ مثل يتيم، مثل كنيسة تغلق أبوابها.. وتبكي نفسها، لنفسها..
كنت تنكفئ مثل نبتة تلف اغصانها و أوراقها ووجهها المتورد.. وتطلب العودة إلى التراب.
كنت، وأنت صبي يجوب أزقة الحي حافيًا..
– ومن يراك الآن، يا وجه العالم المتغصن
لا يقدر أن يتخيل هذا الوجه شابًا-
لكنك كنت صبيًا
و كنت تجوب الأزقة حافيًا
و كنت
-مثل كل الصبية الفارغين تمامًا من المشقة-
ترفع رداء الجارات العجائز
وتنطلق هاربًا من فوج الشتائم..
لكنك كنت
وأخذت تكبر كل عام
ويتجعد قلبك..
لكنك كنت..
وها أنت تقف الآن
على امتداد وجه العالم البحري
وتبكي هذا الحزن المكدس.