تلاشي البعد : دارا عبد الله، من مقاطع عن السجن منشورة في ملحق نوافذ التابع لجريدة المستقبل
————————————–
تلاشي البعد
أرضيَّةُ ممرِّ السجن حائطٌ نائم، والحفرُ كانَت نوافذ. لم أكن أعرفُ بالضبط أنَّ تلك الحُفر كانت قبوراً على شكل منفردات، كالانطباعات الغائرة التي تحفرها حبوبُ الشباب في وجوهِ المراهقين. في الطريق من “المهجع الجماعي” إلى غرفَةِ التحقيق في “فرع الخطيب” بدمشق، كانَ بياضُ بؤبؤِ العين يلمعُ في قتامةِ ظلام تلك الحفر، تأكَّدت وقتها أنَّ فيها بَشراً!
حجمُ المنفردِة – القبر مُصمَّم بدقَّةٍ وعناية، طولُها لا يسمحُ بالتمدُّد الكامل، وعرضُها يعيقُ التكوَّر الجنيني، حيرةٌ برزخيَّة بين الراحة والتعب، حتى التعب المطلقُ غيرُ مسموحٍ لأنَّ الألم النهائي الأقصى تتبعهُ راحةٌ جزئيَّة، كانت تلك الحفرُ أكبرَ انتهاكٍ لكرامةِ القبور.
أحدُ السجناء من “دوما” تمَّ تحويله من تلك المنفردة إلى المهجع الجماعي بعد أن قضى فيها ستَّة أشهرٍ، عينهُ تخافُ الضوء وجسدهُ نحيل، كلامه ثقيلٌ لأنَّ لسانه نسي المواضع الفمويَّة الضامنة للتصويت اللفظي الصحيح، النواتئ العظميَّة نافرةٌ من جسدهِ كأنَّها رؤوسُ كائناتٍ هاربةٌ من الأعَماق.
المصافحَةُ تكلّفه إحراجاً اجتماعيَّاً وجُهداً عقليَّاً حادَّاً، يراقبُ اقتحامَ يده فراغَ الفضاء، رجفانٌ ضيِّقُ الاتّساع كتردُّدِ البوصلةِ قُبيل اختيارِ الجهة، تمرُّ يدهُ بالقرب من يدِ الآخر، فشلٌ فيزيائيٌّ ذريع، يحاولُ مراتٍ عديدةً ويفشلْ، يقول بينه وبين نفسه:”لعمى ما عاد زبطت”، فقدَ القدرةَ على تقديرِ المسافات وعُمْقِ الأمور وسماكةِ الأشياء، كنتُ أراقبه كيفَ يراقب نفسه، وكيف يعاني من “انعدامِ البعد”، من “خفته الثقيلة التي لا تحتمل”، من حواسّه التي لم تعد حواسَّاً.

صوت: أحمد قطليش.

Comments are closed.